الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
المسألة السادسة:{الجلال} إشارة إلى كل صفة من باب النفي، كقولنا: الله ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض، ولهذا يقال: جل أن يكون محتاجًا، وجل أن يكون عاجزًا، والتحقيق فيه أن الجلال هو بمعنى العظمة غير أن العظمة أصلها في القوة، والجلال في الفعل، فهو عظيم لا يسعه عقل ضعيف فجل أن يسعه كل فرض معقول: {والإكرام} إشارة إلى كل صفة هي من باب الإثبات، كقولنا: حي قادر عالم، وأما السميع والبصير فإنهما من باب الإثبات كذلك عند أهل السنة، وعند المعتزلة من باب النفي، وصفات باب النفي قبل صفات باب الإثبات عندنا، لأنا أولًا نجد الدليل وهو العالم فنقول: العالم محتاج إلى شيء وذلك الشيء ليس مثل العالم فليس بمحدث ولا محتاج، ولا ممكن، ثم نثبت له القدرة والعلم وغيرهما، ومن هنا قال تعالى لعباده: {لاَ إله إِلاَّ الله} [الصافات: 35] وقال صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله» ونفي الإلهية عن غير الله، نفي صفات غير الله عن الله، فإنك إذا قلت: الجسم ليس بإله لزم منه قولك: الله ليس بجسم و(الجلال والإكرام) وصفان مرتبان على أمرين سابقين، فالجلال مرتب على فناء الغير والإكرام على بقائه تعالى، فيبقى الفرد وقد عز أن يحد أمره بفناء من عداه وما عداه، ويبقى وهو مكرم قادر عالم فيوجد بعد فنائهم من يريد، وقرىء: {ذُو الجلال}، و{ذِى الجلال}.وسنذكر ما يتعلق به في تفسير آخر السورة إن شاء الله تعالى.يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29).وفيه وجهان أحدهما: أنه حال تقديره: يبقى وجه ربك مسئولًا وهذا منقول معقول، وفيه إشكال وهو أنه يفضي إلى التناقض لأنه لما قال: {ويبقى وَجْهُ رَبّكَ} [الرحمن: 27] كان إشارة إلى بقائه بعد فناء من على الأرض، فكيف يكون في ذلك الوقت مسئولًا لمن في الأرض؟ فأما إذا قلنا: الضمير عائد إلى (الأمور) الجارية (في يومنا) فلا إشكال في هذا الوجه، وأما على الصحيح فنقول عنه أجوبة أحدها: لما بينا أنه فإن نظرًا إليه ولا يبقى إلا بإبقاء الله، فيصح أن يكون الله مسئولًا ثانيها: أن يكون مسئولًا معنى لا حقيقة، لأن الكل إذا فنوا ولم يكن وجود إلا بالله، فكأن القوم فرضوا سائلين بلسان الحال ثالثها: أن قوله: {ويبقى} للاستمرار فيبقى ويعيد من كان في الأرض ويكون مسئولًا والثاني: أنه ابتداء كلام وهو أظهر وفيه مسائل:المسألة الأولى:ماذا يسأله السائلون؟ فنقول: يحتمل وجوهًا أحدها: أنه سؤال استعطاء فيسأله كل أحد الرحمة وما يحتاج إليه في دينه ودنياه ثانيها: أنه سؤال استعلام أي عنده علم الغيب لا يعلمه إلا هو، فكل أحد يسأله عن عاقبة أمره وعما فيه صلاحه وفساده.فإن قيل: ليس كل أحد يعترف بجهله وعلم الله نقول: هذا كلام في حقيقة الأمر من جاهل، فإن كان من جاهل معاند فهو في الوجه الأول أيضًا وارد، فإن من المعاندين من لا يعترف بقدرة الله فلا يسأله شيئًا بلسانه وإن كان يسأله بلسان حاله لإمكانه، والوجه الأول إشارة إلى كمال القدرة أي كل أحد عاجز عن تحصيل ما يحتاج إليه.والوجه الثاني إشارة إلى كمال العلم أي كل أحد جاهل بما عند الله من المعلومات ثالثها: أن ذلك سؤال استخراج، أمر.وقوله: {مَن فِي السموات والأرض} أي من الملائكة يسألونه كل يوم ويقولون: إلهنا ماذا نفعل وبماذا تأمرنا، وهذا يصلح جوابًا آخر عن الإشكال على قول من قال: يسأله حال لأنه يقول: قال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن: 26] ومن عليها تكون الأرض مكانه ومعتمده ولولاها لا يعيش وأما من فيها من الملائكة الأرضية فهم فيها وليسوا عليها ولا تضرهم زلزلتها، فعندما يفنى من عليها ويبقى الله تعالى لا يفنى هؤلاء في تلك الحال فيسألونه ويقولون: ماذا نفعل فيأمرهم بما يأمرهم ويفعلون ما يؤمرون، ثم يقول لهم: عندما يشاء موتوا فيموتوا هذا على قول من قال: {يَسْأَلُهُ} حال وعلى الوجه الآخر لا إشكال.المسألة الثانية:هو عائد إلى من؟ نقول: الظاهر المشهور أنه عائد إلى الله تعالى وعليه اتفاق المفسرين، ويدل عليه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن ذلك الشأن فقال:«يغفر ذنبًا ويفرج كربًا، ويرفع من يشاء ويضع من يشاء» ويحتمل أن يقال: هو عائد إلى يوم و{كُلَّ يَوْمٍ} ظرف سؤالهم أي يقع سؤالهم في كل يوم وهو في شأن يكون جملة وصف بها يوم وهو نكرة كما يقال: يسألني فلان كل يوم هو يوم راحتي أي يسألني أيام الراحة، وقوله: {هُوَ فِي شَأْنٍ} يكون صفة مميزة للأيام التي فيها شأن عن اليوم الذي قال تعالى فيه: {لّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16] فإنه تعالى في ذلك اليوم يكون هو السائل وهو المجيب، ولا يسأل في ذلك اليوم لأنه ليس يومًا هو في شأن يتعلق بالسائلين من الناس والملائكة وغيرهم، وإنما يسألونه في يوم هو في شأن يتعلق بهم فيطلبون ما يحتاجون إليه أو يستخرجون أمره بما يفعلون فيه، فإن قيل: فهذا ينافي ما ورد في الخبر، نقول: لا منافاة لقوله عليه السلام في جواب من قال: ما هذا الشأن؟ فقال: «يغفر ذنبًا ويفرج كربًا» أي فالله تعالى جعل بعض الأيام موسومة بوسم يتعلق بالخلق من مغفرة الذنوب والتفريج عن المكروب فقال تعالى: {يَسْأَلُهُ مَن فِي السموات والأرض} في تلك الأيام التي في ذلك الشأن وجعل بعضها موسومة بأن لا داعي فيها ولا سائل، وكيف لا نقول بهذا، ولو تركنا كل يوم على عمومه لكان كل يوم فيه فعل وأمر وشأن فيفضي ذلك إلى القول بالقدم والدوام، اللهم إلا أن يقال: عام دخله التخصيص كقوله تعالى: {وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَيْء} [النمل: 23] و{تُدَمّرُ كُلَّ شَيْء} [الأحقاف: 25].المسألة الثالثة:فعلى المشهور يكون الله تعالى في كل يوم ووقت في شأن، وقد جف القلم بما هو كائن، نقول: فيه أجوبة منقولة في غاية الحسن فلا نبخل بها وأجوبة معقولة نذكرها بعدها: أما المنقولة فقال بعضهم: المراد سوق المقادير إلى المواقيت، ومعناه أن القلم جف بما يكون في كل (يوم و) وقت، فإذا جاء ذلك الوقت تعلقت إرادته بالفعل فيه فيوجد، وهذا وجه حسن لفظًا ومعنى وقال بعضهم: شؤون يبديها لا شؤون يبتديها، وهو مثل الأول معنى، أي لا يتغير حكمه بأنه سيكون ولكن يأتي وقت قدر الله فيه فعله فيبدو فيه ما قدره الله، وهذان القولان ينسبان إلى الحسن بن الفضل أجاب بهما عبد الله بن طاهر وقال بعضهم: يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ويخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويشفي سقيمًا ويمرض سليمًا، ويعز ذليلًا ويذل عزيزًا، إلى غير ذلك وهو مأخوذ من قوله عليه السلام: «يغفر ذنبًا ويفرج كربًا» وهو أحسن وأبلغ حيث بين أمرين أحدهما يتعلق بالآخرة والآخر بالدنيا، وقدم الأخروي على الدنيوي وأما المعقولة: فهي أن نقول هذا بالنسبة إلى الخلق، ومن يسأله من أهل السموات والأرض لأنه تعالى حكم بما أراد وقضى وأبرم فيه حكمه وأمضى، غير أن ما حكمه يظهر كل يوم، فنقول: أبرم الله اليوم رزق فلان ولم يرزقه أمس، ولا يمكن أن يحيط علم خلقه بما أحاط به علمه، فتسأله الملائكة كل يوم إنك يا إلهنا في هذا اليوم في أي شأن في نظرنا وعلمنا الثاني: هو أن الفعل يتحقق بأمرين من جانب الفاعل بأمر خاص، ومن جانب المفعول في بعض الأمور، ولا يمكن غيره وعلى وجه يختاره الفاعل من وجوه متعددة مثال الأول: تحريك الساكن لا يمكن إلا بإزالة السكون عنه والإتيان بالحركة عقيبه من غير فصل ومثال الثاني: تسكين الساكن فإنه يمكن مع إبقاء السكون فيه ومع إزالته عقيبه من غير فصل أو مع فصل، إذ يمكن أن يزيل عنه السكون ولا يحركه مع بقاء الجسم، إذا عرفت هذا فالله تعالى خلق الأجسام الكثيرة في زمان واحد وخلق فيها صفات مختلفة في غير ذلك الزمان، فإيجادها فيه لا في زمان آخر بعد ذلك الزمان فمن خلقه فقيرًا في زمان لم يمكن خلقه غنيًا في عين ذلك الزمان مع خلقه فقيرًا فيه وهذا ظاهر، والذي يظن أن ذلك يلزم منه العجز أو يتوهم فليس كذلك بل العجز في خلاف ذلك لأنه لو خلقه فقيرًا في زمان يريد كونه غنيًا لما وقع الغنى فيه مع أنه أراده، فيلزم العجز من خلاف ما قلنا: لا فيما قلنا، فإذن كل زمان هو غير الزمان الآخر فهو معنى قوله: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ في شَأْنٍ} وهو المراد من قول المفسرين: أغنى فقيرًا وأفقر غنيًا، وأعز ذليلًا وأذل عزيزًا، إلى غير ذلك من الأضداد.ثم اعلم أن الضدين ليسا منحصرين في مختلفين بل المثلان في حكمهما فإنهما لا يجتمعان، فمن وجد فيه حركة إلى مكان في زمان لا يمكن أن توجد فيه في ذلك الزمان حركة أخرى أيضًا إلى ذلك المكان، وليس شأن الله مقتصرًا على إفقار غني أو إغناء فقير في يومنا دون إفقاره أو إغنائه أمس، ولا يمكن أن يجمع في زيد إغناء هو أمسي مع إغناء هو يومي، فالغنى المستمر للغني في نظرنا في الأمر متبدل الحال، فهو أيضًا من شأن الله تعالى، واعلم أن الله تعالى يوصف بكونه: لا يشغله شأن عن شأن، ومعناه أن الشأن الواحد لا يصير مانعًا له تعالى عن شأن آخر كما أنه يكون مانعًا لنا، مثاله: واحد منا إذا أراد تسويد جسم بصبغة يسخنه بالنار أو تبييض جسم يبرده بالماء والماء والنار متضادان إذا طلب منه أحدهما وشرع فيه يصير ذلك مانعًا له من فعل الآخر، وليس ذلك الفعل مانعًا من الفعل لأن تسويد جسم وتبييض آخر لا تنافي بينهما، وكذلك تسخينه وتسويده بصبغة لا تنافي فيه، فالفعل صار مانعًا للفاعل من فعله ولم يصر مانعًا من الفعل، وفي حق الله مالا يمنع الفعل لا يمنع الفاعل، فيوجد تعالى من الأفعال المختلفة مالا يحصر ولا يحصى في آن واحد، أما ما يمنع من الفعل كالذي يسود جسمًا في آن لم يمكنه أن يبيضه في ذلك الآن، فهو قد يمنع الفاعل أيضًا وقد لا يمنع ولكن لابد من منعه للفاعل، فالتسويد لا يمكن معه التبييض، والله تعالى لا يشغله شأن عن شأن أصلًا لكن أسبابه تمنع أسبابًا آخر لا تمنع الفاعل.إذا علمت هذا البحث فقد أفادك.{سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32)}.ولنذكر أولًا ما قيل فيه تبركًا بأقوال المشايخ ثم نحققه بالبيان الشافي فنقول: اختلف المفسرون فيه وأكثرهم على أن المراد سنقصدكم بالفعل، وقال بعضهم: خرج ذلك مخرج التهديد على ما هي عادة استعمال الناس فإن السيد يقول لعبده عند الغضب: سأفرغ لك، وقد يكون السيد فارغًا جالسًا لا يمنعه شغل، وأما التحقيق فيه، فنقول: عدم الفراغ عبارة عن أن يكون الفاعل في فعل لا يمكنه معه إيجاد فعل آخر فإن من يخيط يقول: ما أنا بفارغ للكتابة، لكن عدم الفراغ قد يكون لكون أحد الفعلين مانعًا للفاعل من الفعل الآخر، يقال: هو مشغول بكذا عن كذا كما في قول القائل: أنا مشغول بالخياطة عن الكتابة، وقد يكون عدم الفراغ لكون الفعل مانعًا من الفعل لا لكونه مانعًا من الفاعل كالذي يحرك جسمًا في زمان لا يمكن تسكينه في ذلك الزمان فهو ليس بفارغ للتسكين، ولكن لا يقال في مثل هذا الوقت أنا مشغول بالتحريك عن التسكين، فإن في مثل هذا الموضع لو كان غير مشغول به بل كان في نفس المحل حركة لا بفعل ذلك الفاعل لا يمكنه التسكين فليس امتناعه منه إلا لاستحالته بالتحريك، وفي الصورة الأولى لولا اشتغاله بالخياطة لتمكن من الكتابة، إذا عرفت هذا صار عدم الفراغ قسمين أحدهما: بشغل والآخر ليس بشغل، فنقول: إذا كان الله تعالى باختياره أوجد الإنسان وأبقاه مدة أرادها بمحض القدرة والإرادة لا يمكن مع هذا إعدامه، فهو في فعل لا يمنع الفاعل لكن يمنع الفعل ومثل هذا بينا أنه ليس بفراغ، وإن كان له شغل، فإذا أوجد ما أراد أولًا ثم بعد ذلك أمكن الإعدام والزيادة في آنه فيتحقق الفراغ لكن لما كان للإنسان مشاهدة مقتصرة على أفعال نفسه وأفعال أبناء جنسه وعدم الفراغ منهم بسبب الشغل يظن أن الله تعالى فارغ فحمل الخلق عليه أنه ليس بفارغ، فيلزم منه الفعل وهو لا يشغله شأن عن شأن يلزمه حمل اللفظ على غير معناه، واعلم أن هذا ليس قولا آخر غير قول المشايخ، بل هو بيان لقولهم: سنقصدكم، غير أن هذا مبين، والحمد لله على أن هدانا للبيان من غير خروج عن قول أرباب اللسان.واعلم أن أصل الفراغ بمعنى الخلو، لكن ذلك إن كان في المكان فيتسع ليتمكن آخر، وإن كان في الزمان فيتسع للفعل، فالأصل أن زمان الفاعل فارغ عن فعله وغير فارغ لكن المكان مرئي بالخلو فيه، فيطلق الفراغ على خلو المكان في الظرف الفلاني والزمان غير مرئي، فلا يرى خلوه.
|